رجائى عطية يكتب:ماذا جرى فى نهر العدالة؟! (٢-٣)
٢٥/ ٦/ ٢٠١٠
تأبينه للراحل العظيم
عبدالعزيز باشا فهمى، قطب المحاماة، وقطب القضاء، وقطب السياسة والوطنية،
وقطب الفكر والأدب والثقافة، وقطب الإصلاح، وقطب مجمع اللغة العربية، وقف
الأستاذ الكبير عبدالرزاق السنهورى يقول: «إن الرجل الذى نؤبنه كان يمثل
جيلاً كاملاً، بما ينطوى عليه هذا الجيل من علم ووطنية وأدب وثقافة
وتفكير!».هذا الاتساع الذى جعل عبدالعزيز فهمى ممثلاً لجيل بأكمله،
مرده إلى تعددية وموسوعية فى نسيجه بوأته الصدارة فى كل ما تولاه أو اضطلع
به، تقلبت حياته بين المحاماة فعرفته محامياً جليلاً وثانياً للنقباء
العظام فى زمن العلم والجلال والوقار، وبين القضاء فصار أول رئيس لمحكمة
النقض لدى إنشائها عام ١٩٣١، وبين السياسة والوطنية فرأته مصر أحد ثلاثة
يقابلون المعتمد البريطانى يطالبون باستقلال مصر ويفجرون ثورة ١٩١٩، وفى
الوزارة والسلطة التشريعية ومجمع الخالدين، عرفته مصر والعالم مناضلاً
لإلغاء الامتيازات الأجنبية، وعضواً بارزاً فى لجنة وضع الدستور، وقاضياً
عظيماً لم يجاره أحد فى صياغته الرائعة للأحكام والمبادئ، ونصيراً للحرية
فقدم استقالته كوزير للحقانية انتصاراً لحق على عبدالرازق فى التعبير عما
يراه فى كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، ومساهماً لافتا فى مجمع اللغة
العربية لا يثنيه شىء عن إبداء ما يراه كفيلاً بالتحديث أو التجديد مهما
اختلف معه الناس!هذه التعددية التى دانت لشيخ القضاة والمحامين، مع
توحد الشخصية، ومع الثقافة العريضة، والأفق الأعرض، هى التى تحدث بها
عبدالعزيز فهمى يوم افتتاح أعمال محكمة النقض فى نوفمبر ١٩٣١، فجمع فيها
جمع العارف المقدر لكل من المحاماة والنيابة والقضاء، فى عمق فكر واتساع
أفق لا انحياز فيه، حتى استطاع وهو يتبوأ موقع قاضى القضاة، ويترأس أول
رئاسة لمحكمة النقض أن يطرى المحاماة بأكثر مما أطراها به أعظم المحامين، ويبدأ
كلمته بدرس للقضاة لا يتصدى لإلقائه إلا مثل هذا الأب الموسوعى العريض..
لا يستنكف الإشارة إلى أن الخطأ فى القضاء وارد، لا يعز عليه بشر، فيقول
للسامعين من كبار رجال القضاء: «هذه المحكمة التى أنشئت لتلافى الأخطاء
القانونية فى الأحكام النهائية، كان وجودها أمراً ضرورياً جداً، فإنه لا
يوجد أى قاض يستطيع أن يدعى لنفسه العصمة من الخطأ، ولقد حاول الشارع
المصرى أن يتلافى بعض ما قد كان يقع من الخطأ فى المسائل القانونية فأنشأ
نظام الدوائر المجتمعة، ولكنه كما تعلمون حضراتكم، كان قاصراً جداً، لا
يتعرض للأحكام النهائية بشىء، ولا يمسها أدنى مساس، بل كان مقصوراً
على ناحية من نواحى التقويم والإرشاد فى المبادئ القانونية دون أن يصلح من
الأحكام ذاتها، وقد سارت محكمة استئناف مصر الأهلية زمناً طويلاً على هذا
النظام، حتى أنشئت محكمة استئناف أسيوط فأصبح غير واف بالغرض وأصبح من
الضرورات القصوى إيجاد نظام النقض والإبرام الذى هو وحده الكفيل بتحرى أوجه
الصواب فيما يتعلق بالأحكام النهائية وإصلاح الخطأ فيها، لأنه يؤثر فى تلك
الأحكام ويبين ما بها من الأغلاط القانونية، ويدعو إلى إعادة الإجراءات فى
القضايا الصادرة فيها، فنحن مغتبطون بهذا النظام، ونحمد الله تعالى على
أنه أنشئ الآن».من اللافت أن قاضى القضاة، عبدالعزيز باشا فهمى، هذا
الموسوعى العريض، ورئيس محكمة النقض، لم ينس وهو يبدى فخره بعظماء القضاء،
أن يقرن قوله بالتأكيد على عظمة المحاماة وإجلاله واحترامه العميق
للمحامين، فيقول: «وإن سرورى يا حضرات القضاة وافتخارى بكم ليس يعدله إلا
إعجابى وافتخارى بحضرات إخوانى المحامين الذين أعتبرهم كما تعتبرونهم أنتم
عماد القضاء وسناده، أليس عملهم هو غذاء القضاء الذى يحييه؟ ولئن
كان على القضاة مشقة فى البحث للمقارنة والمفاضلة والترجيح فإن على
المحامين مشقة كبرى فى البحث للإبداع والتأسيس، وليت شعرى أى المشقتين أبلغ
عناءً وأشد نصباً؟ لا شك أن عناء المحامين فى عملهم عناء بالغ جداً لا يقل
ألبتة عن عناء القضاة فى عملهم، بل اسمحوا لى أن أقول إن عناء المحامى-
ولا ينبئك مثل خبير- أشد فى أحوال كثيرة من عناء القاضى، لأن المبدع غير
المرجح»!لا يترك الموسوعى العريض، هذا التكريم للمحاماة مجدولاً
بتكريم القضاء، إلا ويركز على أواصر العلاقة والتعاون الذى ينبغى أن يكون
بينهم، فيقول «هذا يا إخوانى المحامين نظرنا إليكم، ورجاؤنا فيكم أن تكونوا
دائماً عند حسن الظن بكم، وإن تقديرنا لمجهوداتكم الشاقة جعلنا جميعاً،
نحن القضاة، نأخذ على أنفسنا أن نيسر عليكم سبيل السير فى عملكم، وإن أى
فرصة تمكننا من تيسير السير عليكم لا نتركها إلا انتهزناها فى حدود القانون
ومصلحة المتقاضين، ذلك بأن هذا التيسير عليكم تيسير على القضاة
أيضاً، إذ القاضى قد تشغله الفكرة القانونية فيبيت لها ليالى موخوزاً
مؤرقاً مثل شوك القتاد، يتمنى لو يجد من يعينه على حل مشكلها، وإن له لخير
معين فى المحامى المكمل الذى لا يخلط بين واجب مهنته الشريفة وبين نزوات
الهوى ونزعاته ولا يشوب عمله بما ليس من شأنه- إذا كان هذا ظناً بكم
ورجاءنا فيكم فأرجو أن تكونوا دائماً عند حسن الظن بكم، وتقدروا تلك
المسؤولية التى عليكم، كما يقدر القضاة مسؤوليتهم!.. وأظننى إذ ذكرت
إخوانى القضاة والإعجاب بهم، أنى أدمج مع القضاة حضرات إخوانى وزملائى
النائب العمومى ورجاله، فإنهم هم أيضاً سيكون لهم إن شاء الله القدح المعلى
فيما يتعلق بإحقاق الحق فى المبادئ القانونية.. نحن إذن نفتخر بالمحامين
وبالنيابة وبالقضاة جميعاً»!هذه الكلمات العميقة المضيئة ظلت تعبر
دهوراً عن العلاقة المتينة القائمة على الاحترام والتقدير المتبادل لأضلاع
المثلث الذهبى فى أداء كل لدوره الواجب فى محراب العدالة.. هذه العدالة
التى أنيطت برسل القضاء الذين فى كنفهم وكنف عدلهم وسعة صدرهم وعقلهم تسعى
النيابة وتسعى المحاماة.. وفى رحابهم ترجو العدالة أن يأتى الانتصار لها
بكلمة الحق التى بها تنطق ألسنة القضاة ومهجهم وضمائرهم! لقد كان عبدالعزيز
فهمى تعبيراً حياً نابضاً عن جيله فى عصر جميل مضى، فهل نتقدم إليه؟!.