أقل ما توصف به عبثية سوق الدواء المصري هو أنه سوق عشوائي يكمل منظومة اللا تخطيط التي نعيشها في مصر , فلا المريض مرتاح ولا الصيدلي مرتاح , والسوق سمك لبن تمر هندي , والحكومة أذن من طين وأذن من عجين
وتخيلوا معي صيدلي يجلس في صيدلية ليجيب على أسئلة مندوبي مبيعات شركات لاحصر لها ولا يستطيع عبقري في الحفظ أن يميزها من بعضها بعد أن فاق عدد مندوبي الشركات أعداد المرضى الذين أثقلتهم هموم وضغوط الحياة حتى عجزوا عن شراء الدواء , ويكسد الدواء الذي اضطر الصيدلي لشرائه على الأرفف , وهو الذي اشتراه تحت إلحاح مندوبي المبيعات الذي وقف على باب عيادة الطبيب حتى كتبه لمرضاه , ثم يبحث بعد ذلك عن المندوب لارتجاعه أواستبداله بعد انتهاء تاريخ صلاحيته ويبحث حتى عن اسم الشركة فلا يستدل على أي شئ ولا يجد أمامه إلا إلقاءه في سلة القمامة , وفي اليوم التالي يدخل عليه مندوبون آخرون بابتسامة عريضة وأدوية جديدة , ووعود بأن الأطباء مقتنعون بها تماماً , ويقسم كل مندوب أنه لن يتزحزح من العيادة حتى يكتبه الأطباء لمرضاهم , وأنه ( مظبَّط ) الأمور كلها معهم , فإذا سأل الصيدلي هذا المندوب قائلاً : إن هذا الدواء له أكثر من بديل في السوق فما هو الداعي لإنتاجه ؟ .. ولماذا لاتنتج شركتكم أدوية يحتاجها المرضى ولا يوجد لها بدائل ؟ .. تزداد ابتسامة المندوب اتساعاً ويقول له : أنا فقط أقوم بعملي ولا أعلم على أي أساس قامت الشركة بإنتاجه
أي عبثٍ هذا أيها السادة , أدوية يحتاجها المرضى وهامة جداً في علاجه يتندى جبين الصيدلي لعدم وجودها من كثرة قوله : والله أنا آسف هذا الدواء ’’ ناقص ’’ , وأدوية أخرى بدائلها عديدة , تنتج كل يوم وبصورة عشوائية
إن المسئول الأول عن هذه الظاهرة هو تساهل الحكومة وعدم قيامها بدورها الرقابي وهي التي سمحت بإنتاج أدوية بدائلها متوفرة في الأسواق , مع تجاهلها التام لحل مشكلة وجود نواقص عديدة من الأدوية يحتاجها المرضى بصورة مستمرة ولا يستطيعون الاستغناء عنها
والمسئول الثاني هو استغلال أصحاب الشركات ’’ الجديدة ’’ لوجود مشكلة البطالة بين الشباب فأي شاب أو شابة لا يجد وظيفة يعمل مندوباً لأدوية لا يعلم عنها أي شئ إلا ورقة يحمل فيها إسمها , وعينات مجانية يعطيها للأطباء , مع الحضور يومياً لا للاطمئنان على فاعلية الدواء ولكن للاطمئنان على حركة البيع والشراء
وهذه المشكلة هي مشكلة أخرى في سوق الدواء تضاف إلى مشكلة قيام أصحاب الضمائر الضعيفة بإعادة تدوير الأدوية بعد انتهاء تاريخ صلاحيتها
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ماذا تبقى للناس يثقون فيه بعد كل هذا الفساد والعشوائية التي طالت الغذاء والدواء والأراضي وقطاع الصحة والتعليم والمواصلات والمساكن
ألستم معي أن أرخص شئ في مصر هو ’’ الإنسان ’’