كعادة أعداء الإسلام ـ وهم كثر ـ إثارة الشبهات عن كل شيء وأي شيء يخص الإسلام، وقد وجدوا في موضوع المرأة وقضاياها بابًا مفضلًا لإثارة شبهاتهم المتهافتة الخائبة قال تعالى: ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)) [البقرة:282]، في هذه الآية الكريمة رأى هؤلاء في شهادة المرأة نصف شهادة الرجل انتقاص صريح وواضح من أهليتها، وتأكيد على كونها في نظر الإسلام نصف إنسان. والملاحظ أن قضية الشهادة، والتي يتم أخذها كما وردت في القرآن الكريم في موضع خاص بالدين والتداين وكتابة الدين فقط ـ تم تعميمها في سائر حالات الشهادة، وهو ما فنَّده كثير من الفقهاء، وفرقوا بين حالة الدين والتداين، وهي الإشهار، وبين الشهادة التي يرون أن المرأة كالرجل فيها أخذًا بالآية الكريمة: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) [البقرة: 143]، إذ أنَّ المرأة والرجل سواء في الشهادة على بلاغ الشريعة، وفي رواية السنة النبوية، والتي هي شهادة على رسول الله ؛ فكيف تُقبل الشهادة من المرأة على رسول الله ولا تُقبل على واحد من الناس؟! (فالمرأة العدل ـ بنص عبارة ابن القيم ـ كالرجل في الصدق والأمانة والديانة) [الطرق الحكمية، ابن القيم، ص(236)]. ولهؤلاء الذين يثيرون الشبهات حول هذه القضية، فإن عليهم أن يعلموا أن شهادة المرأة وحدها تقبل في هلال رمضان شأنها شأن الرجل، كما تستوي شهادة المرأة بشهادة الرجل في الملاعنة، وشهادة المرأة قبلت في الأمور الخاصة بالنساء؛ قال ابن قدامة في المغني: (ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال، مثل: الرضاعة والولادة والحيض والعدة، وما أشبهها شهادة امرأة عدل، ولا نعلم بين أهل العلم خلافًا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة) [المغني، ابن قدامة، (12/16)]. ويوضح ابن قدامة الحكم في موضع آخر فيقول: (قال القاضي: والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء؛ الولادة، والاستهلال، والرضاع، والعيوب تحت الثياب: كالرتق والقرن والبكارة والثيابة والبرص، وانقضاء العدة) [المغني، ابن قدامة، (23/152)]. وجاء في الحديث: قال عقبة بن الحارث: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فدخلت علينا امرأة سوداء فزعمت أنها أرضعتنا جميعًا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأعرض عنى، فقلت: يا رسول الله إنها لكاذبة، قال: ((وما يدريك وقد قالت ما قالت، دعها عنك)) [أبو داود، (3605)، وصحيح سنن أبي داود، (3603)]، وقد علق ابن القيم فقال: (ففي هذا قبول شهادة المرأة الواحدة، وإن كانت أَمة، وشهادتها على فعل نفسها) [إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، (1/96)]. وعليه؛ فإن الأمر الوارد في الآية ليس موجهًا إلى القاضي والحاكم، إنما هو لصاحب المال الذي يداين آخر، فأمره الله بكتابة الدين لحفظه؛ فإن عجز عن ذلك، فليستشهد عليه شهيدين من الرجال، أو رجلًا وامرأتين، حتى لا يضيع حقه بنسيان المرأة الواحدة لمثل هذا الأمر الذي لا تضبطه النساء عادة. وعللت الآية السبب الذي لأجله طلب منه الاستيثاق لماله بشهادة امرأتين: ((أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)) [البقرة: 282]، أي: خوف نسيانها فحسب، لأن المسائل المالية مما لا تضبطه النساء ولا تعنى بها عادة، وضلالها وخطأها ينشأ من أسباب أهمها قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته. ولأن الدائن يستعين بمن هم حوله سواء من الرجال والنساء، وفُضل الرجال على النساء في هذا الباب لما كان الغالب هو أن الرجال أضبط من النساء في هذه المسائل؛ لكثرة تعاملهم في هذا المجال بعكس النساء. ولهؤلاء الخصوم الحاقدين نقول: إن شهادة الرجل لم تقبل قط وحده؛ حتى في أتفه القضايا المالية، غير أن المرأة قد امتازت على الرجل في سماع شهادتها وحدها، دون الرجل، فيما هو أخطر من الشهادة على الأمور التافهة، وذلك كما هو معلوم في الشهادة على الولادة، وما يلحقها من نسب وإرث، بينما لم تقبل شهادة الرجل وحده في أتفه القضايا المالية، وفي هذا ردٌّ بليغ على مَن يتهم الإسلام بتمييز الرجل على المرأة في الشهادة. بل إن شهادة المرأة تُقدم أحيانًا على شهادة الرجل بعد سماع الشهادتين: (يثبت خيار الفسخ لكل واحد من الزوجين لعيب يجده في صاحبه ... وإن اختلفا في عيوب النساء أُريت النساء الثقات، ويقبل فيه قول امرأة واحدة، فإن شهدت بما قال الزوج، وإلا فالقول قول المرأة) [المغني، ابن قدامة، (7/ 579)]. وقد قُبلت رواية المرأة الواحدة ـ وما تزال ـ في كل أمر حتى في الحديث؛ فالحديث النبوي الذي روته لنا امرأة عن رسول الله ، له حجية الحديث نفسه الذي يرويه رجل، ولم يردُّ أحد قول امرأة لمجرد أنها امرأة، ونقل الدين وما فيه من تشريع أخطر من الشهادة في حكم قضائي. مصدر الشبهة إذًا هو الخلط بين «الشهادة» وبين «الإشهاد» الذي تتحدث عنه الآية الكريمة، فالشهادة التي يعتمد عليها القضاء في اكتشاف العدل المؤسس على البينة، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معيارًا لصدقها أو كذبها، ومن ثَمَّ قبولها أو رفضها؛ وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضي لصدق الشهادة، بصرف النظر عن *** الشاهد، ذكرًا كان أو أنثى، وبصرف النظر عن عدد الشهود. فالقاضي له إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة أن يعتمد شهادة رجلين، أو امرأتين، أو رجل وامرأة، أو رجل وامرأتين، أو امرأة ورجلين، أو رجل واحد أو امرأة واحدة ... ولا أثر للذكورة أو الأنوثة في الشهادة التي يحكم القضاء؛ بناءً على ما تقدمه له من البينات. أما الآية فإنها تتحدث عن أمر آخر غير «الشهادة» أمام القضاء؛ حيث تتحدث عن «الإشهاد» الذي يقوم به صاحب الدين للاستيثاق من الحفاظ على دَيْنه، وليس عن «الشهادة» التي يعتمد عليها القاضي في حكمه بين المتنازعين. ومن العلماء الفقهاء الذين فقهوا هذه الحقيقة، وفصَّلوا القول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، فقال ابن تيمية فيما يرويه عنه، ويؤكد عليه ابن القيم: قال عن البينة التي يحكم القاضي بناء عليها، والتي وضع قاعدتها الشرعية والفقهية حديث رسول الله : ((البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)) [الترمذي، (1319)، والألباني، (1341)]. (إن البينة في الشرع، اسم لما يبيِّن الحق ويظهره، وهى تارة تكون أربعة شهود، وتارة ثلاثة، بالنص في بينة المفلس، وتارة شاهدين، وشاهد واحد، وامرأة واحدة، وتكون نُكولًا ويمينًا، وخمسين يمينًا أو أربعة أيمان، وتكون شاهد الحال، فقوله : ((البينة على المدعي))، أي عليه أن يظهر ما يبيِّن صحة دعواه، فإذا ظهر صدقه بطريق من الطرق حُكِم له) [الطرق الحكمية، ابن القيم، ص(34)]. فكما تقوم البينة بشهادة الرجل الواحد أو أكثر، تقوم بشهادة المرأة الواحدة، أو أكثر، وفق معيار البينة التي يطمئن إليها ضمير القاضي، لذلك يقول ابن القيم: (وليس في القرآن ما يقتضي أنه لا يُحْكَم إلا بشاهدين، أو شاهد وامرأتين، فإن الله سبحانه إنما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النِّصاب، ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به، فضلًا عن أن يكون قد أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك، ولهذا يحكم الحاكم بالنكول [الامتناع عن اليمين]، واليمين المردودة، والمرأة الواحدة، والنساء المنفردات لا رجل معهن) [الطرق الحكمية، ابن القيم، ص(198)]. إن قول الله سبحانه وتعالى: ((فَإِن لَّم يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَاَمَرأَتَانِ)) [البقرة:282]، ليس واردًا في مقام الشهادة التي يقضي بها القاضي ويحكم، وإنما هو في مقام الإرشاد إلى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل (الآية) فالمقام مقام استيثاق على الحقوق، لا مقام قضاء بها.